انتهاك حق الحياة خلف الجدران.. شهادات عن معاناة المحتجزين والعزلة المتفاقمة في السجون التركية

انتهاك حق الحياة خلف الجدران.. شهادات عن معاناة المحتجزين والعزلة المتفاقمة في السجون التركية
أحد السجون التركية- أرشيف

في مشهد يتكرر بصمت داخل السجون في تركيا، تزداد الشهادات التي تتحدث عن انتهاك حق الحياة والكرامة الإنسانية للمعتقلين، وسط نظام احتجاز تتراكم فيه الأوجاع البطيئة وتغيب فيه المحاسبة، وقد كشفت جمعية حقوق الإنسان في تركيا (İHD) عن واقع صادم في سجني آمد وخاربيت، مؤكدة أن ما يجري هناك ليس حوادث فردية بل نمط من الانتهاكات الحقوقية الممنهجة التي تتجاوز الإهمال الطبي إلى العزلة الاجتماعية والتضييق على أبسط مقومات العيش الإنساني.

خلال الأسابيع الأخيرة، زار وفد من الجمعية سجني آمد وخاربيت لرصد الأوضاع عن قرب، وأجرى محامون وحقوقيون لقاءات مباشرة مع المعتقلين الذين عرضوا أوضاعهم وشكواهم، وتبيّن من تلك الزيارات وفقاً لما أوردته وكالة فرات للأنباء أن مشكلات السجون التركية المزمنة لم تُعالج رغم الوعود الحكومية المتكررة، وأن انتهاكات خطيرة تستمر بصور مختلفة تشمل حرمان المرضى من العلاج، والتأخر في نقلهم إلى المستشفيات، وفرض قيود قاسية على أنشطتهم الاجتماعية والثقافية.

تدهور مقلق في الظروف الصحية والمعيشية

المحامي يوسف أردوغان، الناطق المشترك باسم لجنة السجون المركزية في جمعية حقوق الإنسان وعضو الوفد الزائر، قال إن الملاحظات الميدانية أظهرت تدهوراً مقلقاً في الظروف الصحية والمعيشية داخل السجون في تركيا، وأوضح أن نقل المعتقلين المرضى إلى المستشفيات يتأخر بشكل ممنهج، وأن كثيرين منهم لا يتلقون أدويتهم في الوقت المناسب، بل يخضع بعضهم للفحص وهم مكبّلو الأيدي، في ممارسة تُعد مهينة للكرامة الإنسانية ومخالفة للمعايير الطبية الدولية.

 وأضاف أن عملية الإفراج عن المرضى تخضع لشروط معقدة وغير إنسانية، إذ يُشترط الحصول على تقريرين طبيين منفصلين، أحدهما من معهد الطب الشرعي الذي غالباً ما يتأخر أو يرفض التوصية بالإفراج رغم وضوح الحالة المرضية، وأشار إلى أن بعض السجناء الذين حصلوا على تقارير طبية تؤكد عدم قدرتهم على البقاء في السجن لم يُفرج عنهم بذريعة أنهم يشكلون تهديداً للأمن العام، وهو ما عدّه انتهاكاً مباشراً لحق الحياة المنصوص عليه في الدستور التركي والمواثيق الدولية.

في سجن خاربيت الذي يُصنف من النموذج "R" والمفترض أن يكون مخصصاً للمعتقلين ذوي الأمراض المزمنة، لاحظ الوفد الحقوقي أن الظروف هناك أبعد ما تكون عن معايير الرعاية، فالمعتقلون الذين يستخدمون الكراسي المتحركة يواجهون صعوبات بالغة في التنقل بسبب ضيق المصاعد ورداءة المرافق الصحية، في حين تكاد خدمات المرافقة والرعاية تكون معدومة، ويشير أردوغان إلى أن هذا النوع من السجون أنشئ نظرياً في تركيا لتأهيل المرضى، لكنه في الواقع يُدار بوصفه بيئة احتجاز قاسية بلا تجهيزات طبية كافية، ما يحوّله إلى سجن للعقاب لا للعلاج.

أما في سجن آمد، فالوضع لا يقل سوءاً. فمنذ جائحة كوفيد-19، ألغيت الأنشطة الجماعية التي كانت تخفف من وطأة العزلة، ولم تُستأنف بالكامل حتى الآن، وفي كثير من الحالات، يُمنع السجناء من المشاركة في الرياضة أو الفعاليات الثقافية أو الدورات التعليمية.

 ويرى الحقوقيون أن هذه السياسة تزيد من تفاقم العزلة الاجتماعية والنفسية، خصوصاً في ظل منع وصول الصحف والمجلات إلى أيدي المعتقلين، وحرمانهم من الكتب الكردية، وهو ما يشكل، بحسب أردوغان، انتهاكاً واضحاً لحرية التعبير وحق استخدام اللغة الأم الذي تكفله القوانين التركية والدولية على حد سواء.

أحد أبرز مظاهر الإهمال التي وثقها وفد الجمعية يتعلق بالرعاية الطبية الأساسية، وخصوصاً علاج الأسنان والخدمات الصحية العامة، فقد أفاد المعتقلون أن مواعيد العلاج تتأخر لأشهر طويلة، تصل أحياناً إلى ستة أشهر، ما يسبب لهم آلاماً جسدية مزمنة ويزيد من تدهور حالتهم النفسية، وهذا الوضع، كما يصفه أردوغان، لا يمكن تبريره بضغط العمل أو نقص الكوادر الطبية، لأنه بات قاعدة عامة في معظم السجون، الأمر الذي يجعله شكلاً من أشكال العقوبة غير المعلنة.

إلى جانب السجون من النموذج "R"، تشير جمعية حقوق الإنسان إلى تصاعد أعداد السجون من النوعين "S" و“Y"، وهي مؤسسات ذات حراسة مشددة تعتمد على نظام العزل شبه الكامل، فالمعتقلون في هذه السجون يُحتجزون في غرف فردية أو مزدوجة ويُمنعون من التواصل مع غيرهم، كما تُقلص فترات الزيارة إلى الحد الأدنى، والتصميم المعماري لهذه السجون، بحسب أردوغان، يضاعف الإحساس بالعزلة، إذ تعتمد على ممرات ضيقة ونوافذ صغيرة لا تسمح بدخول ضوء الشمس الكافي، ما يجعلها أقرب إلى ما يشبه "آباراً إسمنتية" تحرم الإنسان من أبسط شروط الحياة الكريمة، ويصف الحقوقيون هذا الطراز من السجون بأنه يتعارض كلياً مع الكرامة الإنسانية، إذ يهدف إلى كسر الإرادة النفسية لا إلى إصلاح السلوك.

انتهاكات تشمل النساء السجينات

ولا تقتصر الانتهاكات على الرجال، بل تمتد إلى النساء السجينات اللواتي يعانين أوضاعاً خاصة لم تُلبَّ احتياجاتهن فيها، فقد طالبت المعتقلات مراراً بإزالة الكاميرات من الأماكن الخاصة لضمان الخصوصية، إلا أن السلطات لم تستجب لهذه المطالب حتى اليوم، كما تشير التقارير إلى أن الخدمات الصحية الخاصة بالنساء لا تُقدَّم مجاناً ولا بانتظام، وأن الأمهات من السجينات يواجهن صعوبات في رعاية أطفالهن، في حين يفتقر الأطفال في سجون الأحداث إلى التعليم والدعم النفسي والاجتماعي الضروري لنموّهم السليم.

ويخلص أردوغان إلى أن استمرار هذا الواقع يشكل تهديداً مباشراً لحق الحياة، مؤكداً أن السلطات التركية تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية عن تدهور الأوضاع داخل السجون، ويقول إن المرضى في السجون لا يمكن أن يكونوا أوراق مساومة في أي عملية سياسية أو أمنية، داعياً إلى الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين الذين تثبت تقارير طبية عدم قدرتهم على الاستمرار في بيئة الاحتجاز.

نظام عقابي

إن ما تكشفه هذه الشهادات لا يقتصر على إهمال إداري، بل يفضح نظاماً عقابياً باتت فيه المعاناة جزءاً من سياسة الدولة التركية فالحرمان من العلاج، واحتجاز المرضى في ظروف قاسية، والتضييق على حرية القراءة والتواصل، كلها ممارسات تضع تركيا أمام اختبار صعب في التزاماتها الدولية، فالمعايير التي حددتها الأمم المتحدة، ومنها قواعد نيلسون مانديلا الخاصة بمعاملة السجناء، تنص بوضوح على أن الرعاية الصحية حق لكل معتقل، وأن السجون ليست أماكن لتقويض الكرامة بل لإصلاح السلوك في إطار إنساني يحترم الحياة.

ورغم أن السلطات التركية كثيراً ما تبرر سياساتها الأمنية بالحرص على النظام والانضباط، فإن المنظمات الحقوقية ترى أن ما يجري يرقى إلى مستوى التعذيب البطيء، حيث تتحول الأمراض إلى أحكام إضافية، والعزلة إلى وسيلة للسيطرة، ويؤكد مراقبون أن الإفلات من المساءلة في هذه الانتهاكات هو ما يسمح بتكرارها، إذ لم تُفتح تحقيقات جدية في حالات وفاة معتقلين نتيجة الإهمال الطبي، ولم تُحاسب الجهات المسؤولة عن رفض الإفراج عن المرضى رغم تقارير رسمية توصي بذلك.

تقرير جمعية حقوق الإنسان ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التحذيرات التي تصدرها المنظمات المحلية والدولية منذ سنوات، لكن ما يميزه أنه ينقل صوت المعتقلين أنفسهم، ويضع المسألة في إطارها الإنساني وهو الحق في الحياة، هذا الحق، كما يقول أردوغان، لا يُفقد فقط بإزهاق الروح، بل حين تُجبر على العيش في ظروف تمس كرامتك.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية